أعمدة ومقالات

“بخرة” لوزير العدل !!

سيف الدولة حمدنا الله

الجهد الذي يقوم به محامي الحكومة (وزير العدل) في الدفاع عن النظام لتحسين سِجلِّه الأسود في مجال حقوق الإنسان، يُشبِه دور محامٍ يقوم بالدفاع عن متهم في قضية تحرّش فيما المتهم يُصِرّ على مغازلة حسناء داخل المحكمة ويرفع لها حواجبه أمام القاضي، ثم ينتظر من محاميه أن يحصل له على البراءة.

 

هذا جهد ليس وراءه طائل، فالمحامي لا يستطيع تغيير الوقائع التي تُطرح أمام المحكمة لمجرد أنه بارع وفصيح، وبحسب أصول المهنة، المحامي الحويط لا يقبل على نفسه الدفاع عن متهم لا يمتثل لتعليماته ويكُف عن تكرار الخطأ الذي يمثل بسببه أمام نفس المحكمة مرة بعد أخرى، ففي كل موسم (مطلع سبتمبر من كل عام) يذهب وزير العدل (تناوب في ذلك عدد من الوزراء) للترافع أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف ويصطحب معه “أورطة” من العواطليّة والمُتسكّعين ليترافع نيابة عن الحكومة ويقول أن حال الإنسان في السودان عال العال وحقوقه مُصانة وكرامته محفوظه وكل مواطن دمه بداخل عروقه، وأن كل ما يُروى عن إنتهاكات غير صحيح، وفي كل مرة لا يجد أسانيد حقيقية وجادة لإثبات دعواه، حتى أنه في إحدى (المواسم) ذكر أحد وزراء العدل في مرافعته أن من دلائل تحسّن حقوق الإنسان في السودان أن النظام (رضي) بتنفيذ حكم المحكمة الدستورية الذي كان قد قضى بإبطال قرار تعليق صحيفة التيار عن الصدور.

ثم، وما أن تنفض جلسات مجلس حقوق الإنسان، حتى ينطلق الوحوش من جديد في علنية وجسارة كاملين، فتُصادر وتوقف الصحف (تمت مصادرة صحيفة الصيحة “عدد 3/10/2016” قبل أن تهبط طائرة وزير العدل عائداً من جنيف)، وتبدأ الإعتقالات وجرائم التعذيب …إلخ حتى يحين الموعد القادم في جنيف.

 

كان الواجب على وزير العدل أن يشترط على الحكومة أن تمنحه سلطة كاملة على مراقبة وحماية حقوق الإنسان في السودان بما يُمكّنه من منع أي جهة من التعدي عليها أو إنتهاكها حتى يقبل تولى الدفاع عنها، وبحيث يستطيع مراجعة وتفتيش حالات الإعتقال بجهاز الأمن وإجراء المساءلة عن أي حالة إعتقال بالمخالفة للقانون، وأن تكون لديه سلطة (حقيقية) في التحقيق في أي إنتهاكات لحقوق الإنسان في مناطق الحروب وتقديم الضالعين فيها للمحاكمة، وسلطة الإشراف على منح الإذن بإقامة الندوات والليالي السياسية، والأمر بإلغاء أي قرار تُصدره السلطات بغلق المراكز الثقافية، وسلطة محاسبة أي شخص يقوم بمصادرة صحيفة بعد طباعتها ومنح الإذن لصاحبها بمقاضاته والرجوع عليه بالتعويض عن الخسائر التي تنجم عن ذلك، ففي مثل واقعة التعذيب التي حدثت في حق أحد المواطنين قبل أسابيع، كان من اللازم أن تكون لوزير العدل سلطة إستدعاء رجل الدولة النافِذ الذي وردت في حقه بينات كافية لتوجيه الإتهام في مواجهته والتحقيق معه فيما نُسِب إليه…إلخ.

 

ليست مهمة محامي الحكومة (وزير العدل) أن يحصل على براءة موكلته بإخفاء الحقيقة أو تزيينها وبما يخالف الواقع، فهناك خطأ شائع يقول بأن مهمة المحامي هي السعي لبراءة المتهم برغم علمه بأنه مذنب، وهذا فهم غير صحيح، ذلك أن دور المحامي هو مساعدة المتهم في شرح وتوضيح القضية أمام المحكمة للحصول على أفضل نتيجة (وفق القانون) طبقاً لظروف القضية، ولهذا السبب تمنع معظم القوانين أن تكون للمحامي مصلحة في القضية التي يترافع فيها، كأن تكون له نسبة مئوية من حصيلة دعوى التعويض، أو أن يتوقف إستمرار المحامي في عمله مع موكله على نجاحه في القضية ..إلخ، والسبب في ذلك هو نشوء ما يُعرف بتعارض المصلحة الذي يؤدي إلى حمل المحامي على تخطي مبادئ العدالة والقانون بهدف كسب القضية، كأن يختلق البينة أو يُملي الشهادة على الشاهد ..إلخ.

 

ليس هناك عار مثل أن يقوم شخص غريب بحماية الأب من أبنائه ويمنع عنهم الأذى والظلم والتعذيب الذي يُوقِعه عليهم، والدولة هي التي يلجأ إليها المظلوم الذي يتم حبسه أو تعذيبه أو حرمانه من حقوقه، لا أن تُوقِع هي الظُلم ثم تنتشي لأنها فلتت منه بعقوبة خفيفة، وواجب الدولة أن تحمي رعاياها دون أن تنتظر رقيباً يُمسِك لها العصى، والذين يفعلون ذلك من أهل السلطة ويُنكرون على غيرهم الحرية ويمارسون الإعتقال والتعذيب، سوف يأتي عليهم يوم يطالبون فيه بما ينكرونه على غيرهم، فليس هناك شيئ برع فيه تنظيم الإخوان المسلمين مثل منازلة الحكّام والخروج عليهم بالعصيان والتمرد والتظاهرات (يرجع إليهم إختراع تسمية المسيرات المليونية) وحتى الخروج والمقاتلة بالسلاح كما حدث في 1976.

 

من حظ النظام أن خصومه بمجلس حقوق الإنسان لم يُحسنوا تقديم قضية الإدعاء، ذلك أن حق الإنسان لا يقتصر على حماية سلامة بدنه وحريته، فللإنسان الحق في العمل إذ لا يجوز التمييز بين الناس في تولّي الوظائف العامة (هل رأيت كيف يتنقل الشاب ياسر خضر من وظيفة السفارة للوكالة وأقرانه لا يزالون يقفون بالصفوف أمام مكاتب التوظيف!!)، وله – الإنسان – الحق على الدولة في التعليم والعلاج من الأمراض ..إلخ، وهي لا جقوق ضائعة ومهضومة وقد أغفلها الملف.

 

لا يصح أن يقوم وزير العدل بالدفاع عن قضية دون أن يكون له سلطة في كبح جرائم موكله، فوزير العدل مواطن قبل أن يكون وزيرا، ويعلم بما يعلمه أي مواطن من تجاوزات وإنتهاكات لحقوق الإنسان، ويعلم أننا قد أصبحنا رعايا لا مواطنين، وأننا شعب من “البدون” لا حقوق لنا في العمل ولا التعليم ولا العلاج ولا الحرية في أن نعيش في سلام بوطننا، وتقابلنا “عشيرة” تتمتع بحقوقنا وحقوقهم في آنٍ معاً.

 

هذه “بخرة” عسى أن يحتفظ بها وزير العدل في حقيبته قبل أن يتوجه إلى جنيف في العام القادم، ويتحصل على نتيجة هذا العام: سقوط تعقبه حفاوة وإحتفال.

 

سيف الدولة حمدناالله

saifuldawlah@hotmail.com

  

 

 

 

تعليق واحد

  1. أما نحن في مناطق النزاع في دارفور والجبال والنيل الأزرق تنازلنا عن الحقوق التي ذكرتها أستاذنا من تعليم وعلاج وعمل و حرية تعبير نبحث فقط عن الحق في الحياة والحق في الأمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى