أعمدة ومقالات

التطبيع واستقلالية القرار السوداني

النور حمد
أحاول في هذه المقالة أن أناقش قضية التطبيع مع دولة إسرائيل من زاوية مغايرة. محور هذه الزاوية هو كسر الحاجز العقلي والنفسي، الذي ظل يحول بين السودان وبين التعاطي الواقعي مع دولة إسرائيل، شأنه شأن سائر دول الجوار. بل وشأن كل الدول المنضوية تحت مظلة الأمم المتحدة التي لها علاقات طبيعية مع إسرائيل. ولا ننسى أن نذكر هنا أن جمهورية مصر العربية، زعيمة كل العرب منذ خمسينات القرن الماضي وحتى سبعيناته، قد طبعت علاقتها بإسرائيل منذ أربعة عقود، تقريبًا. طبعت مصر رغم أنها أول من رفع راية معاداة إسرائيل، وأول من خلق حالة اصطفاف عربية شاملة ضدها. غير أن مصر كانت أول من خرج على هذ الاصطفاف. فقاطعها العرب سنينًا ثم ما لبثوا أن قبلوا خيارها ولم يعودوا يدمغونها بخطيئة التطبيع المزعومة.
كانت لمصر وللأردن أسبابهما في الخروج من ذلك الاصطفاف. فقد غلَّبتا خيار مصلحتيهما، على خيار العمل لهدف جماعي، عابر للدولة القطرية، يفتقر إلى التحديد الدقيق والآليات الواضحة. والآن تنضم إلى ركب الخروج من الاصطفاف العربي الهلامي، الذي لم يكسب معركة واحدة مع إسرائيل، دولتا الإمارات والبحرين. وبهذا، خرجت إلى العلن أربعة دول عربية، من مظلة مقاطعة إسرائيل. ونعلم جميعًا أن مجموعة أخرى من الدول العربية ظلت تتعامل مع إسرائيل من تحت الطاولة، منذ تسعينات القرن الماضي. بل زار كبار قادة هذه الدول إسرائيل، كما زارها قادة إسرائيليون. كل من يقرأ مسار التراجع في مسيرة العداء المطلق لإسرائيل يتضح له ازدياد حالة تفكك حالة القطيعة وسيرها، باضطراد، نحو التلاشي والزوال.
يتمسك تيار الإسلام السياسي في السودان بالإبقاء على مقاطعة إسرائيل، في حين أن زعيمتيه تركيا وقطر تتعاملان مع إسرائيل. كما يتمسك بالمقاطعة السيد الصادق المهدي، الذي هرولت زعامة حزبه إلى إسرائيل منذ خمسينات القرن الماضي. أما القبيل الثالث فهم الشيوعيون وغيرهم من فصائل اليسار، الذين يتناسون أن الاتحاد السوفيتي كان من أول الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل. ولم يجرؤ الحزب الشيوعي ولا غيره من الأحزاب اليسارية على مطالبة الدولة الشيوعية السوفيتية سحب اعترافها بإسرائيل، حتى بعد الهزيمة العربية في عام 1967، التي احتلت على أثرها إسرائيل كلا من هضبة الجولان السورية، وسيناء المصرية، والقدس الغربية. الشاهد في كل ما تقدم أن مقاطعة إسرائيل بقيت على الدوام حالةً مهتزة ومتناقصة. بل لقد أصبحت بلا معنى، منذ أن تفاوض الفلسطينيون مع إسرائيل وقبلوا باتفاق أوسلو الذي انقسموا بسببه إلى فصيلين رئيسين؛ اختار أحدهما أن يرسل صواريخ بدائية إلى إسرائيل، أما الآخر فلا يتأخر في الذهاب لتقديم واجب العزاء في وفيات أقارب القادة الإسرائيليين.
لا تنحصر أهمية التطبيع مع إسرائيل فيما يخصنا نحن السودانيين، فيما أرى، في رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولا في التعاون التجاري والزراعي والتقني مع إسرائيل، رغم ما في كل ذلك من منافع مؤكدة. يمثل التطبيع في نظري نقلة تاريخية تتمثل في الجرأة على الخروج على الهيمنة العربية التاريخية على القرار السياسي السوداني. بعبارة أخرى، يعني التطبيع بالنسبة لي، بداية نهاية الاحتلال العربي للعقل السوداني، والقضاء على التشوه النفسي التاريخي الذي جعل السودانيين يضحون بمصالحهم مرارًا وتكرارًا لنصرة حقٍّ لا يقف معه أهله أنفسهم. وتمثل خطوة التطبيع، بالنسبة لي ضربة بداية فارقة في مسيرتنا نحو، استعادة الهوية السودانية المضيعة.
ما من شك أن لإسرائيل تجاوزاتها اللاانسانية، غير أن لبعض الدول العربية تجاوزاتها التي لا تقل منها فظاعة. ولو أننا نعادي الدول بسبب تجاوزاتها ومواقفها من حقوق الإنسان، لوجب علينا قطع علاقاتنا مع دول كثيرة عربية، وغير عربية، بسبب التجاوزات. من بين تلك الدول مصر، التي احتلت حلايب وعملت على تمصيرها. وهو عمل لم يستنكره أي قطرٍ عربي. الحقيقة الثابتة أن كل دول العالم معترفة بإسرائيل باستثناء أكثرية الدول العربية. وهناك دولٌ لا تقع تحت هيمنة المنظومة الغربية، كالهند والصين معترفةٌ بإسرائيل، ولها معها علاقات تتفاوت في الكيفية وفي المقدار. بل للهند، على سبيل المثال، تعاونٌ مع إسرائيل فيما يتعلق بتكنولوجيا السلاح، وغير ذلك من صور التعاون. فعدم الاعتراف بإسرائيل ليس موقفا كوكبيًا ينبغي أن نتَّبعه، ولا هو شأنٌ ينبغي أن يحمل السودان عبئه بأكثر مما تحمله دولٌ جارةٌ مثال: إثيوبيا وتشاد ومصر. الإصرار على عدم الاعتراف بإسرائيل ومقاطعتها بدعوى الحقوق يضعنا في سلة نفاق النخب العربية والمستعربة. وهي سلةٌ لا يعرف العالم سجلاً في حقوق الإنسان، أسوأ من سجلها. فقتل اليمنيين بالقصف الجوي على مدى سنوات، وتجويعهم وتعريضهم للإصابة بالكوليرا لا يقل فظاعةً عما جرى للفلسطينيين، وما جرى للدارفوريين في السودان، من قتلٍ وتشريد بأسلوب الأرض المحروقة. فكل الفظائع الجارية حاليًا في المنطقة العربية؛ كما في سوريا وليبيا واليمن والعراق أبطالها العرب، وليس إسرائيل.
تتهاوى المقاطعة لإسرائيل حاليا باطراد، وربما يأتي يومٌ نجد فيه أنفسنا الوحيدين المتمسكين بها، الدافعين لفاتورتها على صُعُدٍ مختلفة.
يقول البعض أن ثورتنا ثورة حقوق وينبغي أن تقف ضد الظلم أينما كان، غير أن هذا تصور يتسم بالكثير من المثالية. فثورتنا لم تأت لتغير العالم وإنما لتغير بلادنا. كما أن إسرائيل دولةٌ معترفٌ بها من قبل النظام الدولي، ولا معنى لأن نكون غير معترفين بها، اللهم إلا إذا كنا نريد أن نغير النظام الدولي نفسه. إن الإصرار على عدم الاعتراف بإسرائيل لا يختلف، من حيث تطرفه، وتأثيراته السالبة، من التمسك بالشعار العروبي المنقرض، القاضي بإلقائها في البحر. الاعتراف بإسرائيل أو المضي لدرجة تبادل البعثات الدبلوماسية معها لا يجلب بالضرورة إلى بلادنا المن والسلوى. ولكنه يجلب الانفلات من التبعية ويتيح مجالاً لرسم سياستنا الخارجية على نحو جديد، ويفتح الباب لإعادة تشكيل السردية التاريخية والمعرفية التي ينبغي أن تتأسس عليها سياساتنا لإدارة السودان الديموقراطي المتسم بالتنوع الواسع.
يتناسى قطاعٌ من نخبنا السياسية في المركز أن ما يقارب نصف السودانيين لا يرون في القضية الفلسطينية شأنًا يخص السودان، بأكثر مما يخص المجتمع الدولي. ويجب ألا ننسى أن السودانيين المقهورين في أطراف القطر لم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم غوائل النخب المركزية المستعربة التي أذاقتهم الويل. هذا في حين تُنصِّب هذه النخب نفسها مدافعةً عن حقوق الفلسطينيين. ختامًا، من الخطأ أن إعترافنا بدولة إسرائيل، حين يحدث، سيكون بالضرورة مماثلا لما قامت به دولتا الإمارات والبحرين، أو ما قامت به قبلها دولتا مصر والأردن. فمنطلقنا كسودانيين مختلف، وتسبيبنا مختلف، وأهدافنا مختلفة. كل ما في الأمر أن من الحصافة أن نغتنم اللحظة السيكلوجية الراهنة، لنفك هذا القيد. وهو قيد قيدتنا به حساباتٌ خاطئةٌ أجراها سياسيونا في الماضي، تسبب فيها الاحتلال القومي العربي، والإسلاموي الأممي، لعقولهم. المهم هو الاعتراف والخروج من دائرة العداء. أما أي شروطٍ أخرى نضعها للتطببع و أي اختيارٍ نختاره لمدى مسافة الابتعاد، أو الاقتراب من اسرائيل، فينبغي أن يجري داخل إطار الاعتراف، ويجري تأسيسه على دراسات جدوى واضحة.
<img class="j1lvzwm4" src="data:;base64, ” width=”18″ height=”18″ />

تعليق واحد

  1. نعم،، تلاشت القضية الفلسطينيه حتى أصبحت لا تهمنا وتهم العرب بشئ
    الفلسطينيون مطبعون ومعتاشون مع اليهود واوضاعهم الاقتصادية افضل منا بفراسخ
    ولكن ان يتم ابتزازنا بقضية الإرهاب حتى نأت زاحفين على بطوننا للاعتراف والتطبيع مع إسرائيل
    فهذا امر يصعب ابتلاعه،، ان نبدأ عهدنا الديمقراطي بمزلة وخنوع هو شئ اشبه باللعنة
    حقيقة اكره ان يطأطئ وطني رأسه لسيد جديد بحجة ان هذا السيد الجديد يحمل كل مفاتيح النماء والرخاء لنا
    وان إسرائيل دولة متطورة (إسرائيل حتى الآن تتلقى مساعدات امريكية) وستعمل على افادتنا في المجال الزراعي والتقني، وكأن من أهداف إسرائيل الحنينة المساعدة على تنمية الأصدقاء المسلمين 😴😴ولو كان ذلك صحيحا لما كانت مصر والاردن واريتريا يعيشون اوضاعا اقتصادية مزرية،، اتمنى ان نتخلى بعض الشئ عن احلامنا الساذجة ونتعامل بشئ من العقل والحنكة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى