أعمدة ومقالات

الديموقراطية والفنون والإبداع الموسيقي

د. كمال يوسف علي

حول العلاقة بين الديموقراطية والفنون عموماً؛ والإبداع الموسيقي بخاصة

 

د. كمال يوسف علي

 

بدءاً لا بد من طرح السؤال؛ أي ديموقراطية نعني عندما يتعلق الأمر بالفنون بمختلف أنماطها؟ ثُم سؤال آخر؛ لماذا الفنون؟ وهل يأتي السؤالان في ذات الدرجة من الأهمية إذا ما تم طرحهما في حالة الربط ما بين الديموقراطية وأيٍ من الأوجه الأخرى للحياة، الديموقراطية والاقتصاد؛ أو الإنتاج؟ أو الديموقراطية والتربية؟ الديموقراطية والتعليم؟ الديموقراطية والاجتماع؟ إلى آخر هذه الأوجه المتعددة التي يُعمل من خلالها على الارتقاء بحياة الجنس البشري، أو على أقل تقدير أنها تمثل بعضاً من المواضيع التي جعل منها الفلاسفة والمفكرين ميادين لبحثٍ مستفيضٍ ومتصل من أجل الوصول إلى نتائج وحلول عملية لحياة أفضل وإن كان ذلك على المستوى النظري.

حين البدء في العمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية لمجتمعٍ ما على نحوٍ ديموقراطي يراعي التوازن والعدالة؛ لا شك أن الأمر يتطلب دراسات متعمقة، وحلولاً عملية يسهل تجريبها ومن ثم تطبيقها، الأمر الذي يتطلب بدوره جهداً مؤسسياً وآلياتٍ ربما امتدت إليها يد البيروقراطية في التطبيق، ولنمثل لذلك بمجالات الرعاية الصحية والتعليم ومختلف المجالات، لكن! هل يتطلب إسماع صوت مترنّمٍ من بادية الكبابيش عبر إذاعة (هنا أمدرمان) أي جهد مؤسسي، أو أي آلياتٍ قد تعيقها البيروقراطية؟ وقس على ذلك في تذوق جماليات برتالٍ مصنوع في أقصى غرب السودان وعرضه على شاشة تلفزيون السودان، أو التعرف على عادة جدع النار في منطقة جنوب النيل الأزرق، أو سِبر اللوبيا في جبال النوبة، أو الاستماع إلى كانوب الدبيساي من شرق السودان، أو ملاحظة أن استخدام (الطار) كآلة إيقاعية عند مختلف أجناس النوبة في شمال السودان في مصاحبة الغناء؛ وعند قبائل الشايقية في مصاحبة المدائح النبوية فقط! كل تلك التنويعات ومثيلاتها في مختلف ضروب الفن لا تحتاج في تبادلها وتناقلها عبر جغرافيا السودان الواسعة إلى ما تحتاجه المجالات الأخرى من آليات ومن مدخلات، حتى الشِق المادي منها لا تكلف صناعته وتحضيره الكثير الذي يصعب توفيره، فصناعة الطمبور في شمال السودان، أو الباسنكوب في شرقه، أو أم بربري في الغرب، أو الجنقر في النيل الأزرق، كلها لا تتطلب سوى ما هو متوفر من الخامات المحلية واليد الماهرة، تماماً كما الطُرفة عندما تصدر في لحظة صفاءٍ أو في لقاء مسامرة، أو بذات البساطة التي تصنع بها صبيّةٌ “لدَايَة” للجَبَنَة من بقايا قماش وتزينه بالسكسك والودع، أو عندما يغلب الحنين على مسافرٍ في امتدادات البطانة صادحاً:

ست البنات يا أغلى من عينيَّ

ممشوقة القوام الخاتية من الليّة

شعرِك تبة الليل المابتبلو ترية

وثغرك فجة البرْق اللسحابة ام دية

فيقع صداه عند محمد الأمين ويردده بكل أريحيةٍ، فالأمر لا يحتاج إلى كثير عناء، أو أخذٍ ورَدْ، بل هي القريحة وتفاعل العقل مع بيئته وموروثه، ثم تذوق الآخر لهذا المنتج بذات البساطة والتلقائية.

الديموقراطية:

بالنظر إلى السؤال المطروح في مستهل هذه الورقة؛ أي ديموقراطية نعني في حال الحديث عن العلاقة بينها والفنون؟ لا بُد لنا من محاولة إيجاد إجابةٍ له، وللأسئلة التالية المتفرعة عنه:

1/ هل هي الديموقراطية الإجرائية المُنظِمة لعمليات الفعل السياسي وانتخاب أجهزة الحكم وإدارة الدولة؟

2/ هل هي الديموقراطية بمعنى الحق في التعبير عن الرأي بحرية مطلقة دون خوف؟

3/ هل هي الديموقراطية بكل ما يترتب عليها من عدالةٍ في اقتسام السلطة والثروة وتحقيق التنمية المتوازنة؟

4/ أم أن هنالك مفهوم أوسع للديموقراطية نسعى لتحقيقه من خلال الفنون؛ ونسعى من خلاله في ذات الوقت لتطوير فنوننا على نحوٍ تبادلي؟

يشير حيدر إبراهيم إلى عدم التوصل إلى معنىً متفقٌ عليه للديموقراطية، قائلاً بأن هناك اتفاقاًحول معايير معينة متى ما تم استيفاؤها فهي تشير إلى وجود نوع من الديموقراطية، ومن أهم هذه الشروط وفقاً له: “المشاركة الفعالة، المساواة في التصويت، الفهم المستنير للبرامج والبدائل، تضمين كل من لهم الحق في التصويت”، وهو يرى أن أهم ما في هذه المعايير “أنها تحقق المساواة في الحقوق والواجبات” كما أنه يرى أن معناها لا يكتمل إلا من خلال: “تجنب الاستبداد، ضمان الحقوق الأساسية، الحرية العامة، الحرية الفردية، المسؤولية الأخلاقية، التنمية البشرية، حماية المصالح الشخصية الأساسية، المساواة السياسية، إضافةً إلى تحقيق السلام والرخاء”. ومما لا شك فيه أن توفر هذه المعايير قمين بخلق مجتمع مستقر يمكنه أن يخطو نحو الرفاه. والديموقراطية كما يراها نور الدين ساتي هي “عملية إعادة بناء الإنسان والمجتمع على أُسسٍ جديدة؛ تتكامل فيها العملية التربوية والأخلاقية والسلوكية والفكرية والإبداعية والسياسية والإنتاجية، وهي عملية تفاعلية وتكاملية، تضامنية بين الفرد والمحيط الاجتماعي والتربوي والثقافي الذي يعيش فيه”. ويرى عليُ الدين هلال “إن جوهر الديموقراطية يتمثل في إدارة الاختلافات والتنوعات في المجتمع بطريقةٍ سلمية، إذ يُقدّم النظام الديموقراطي إطاراً مؤسسياً لتنظيم المصالح والآراء المختلفة، والتعبير عنها، والتوفيق بينها على أساس الاعتراف بشرعيتها جميعاً”.

وبالرجوع إلى الأنماط العديدة التي عادةً ما يدرج تحتها مفهوم الديموقراطية نجد أن تحقق اثنين منهما يترتب عليه إنجاز الديموقراطية بوصفها المذكور عاليه وهما وكما أوردهما ماجد موريس:

  1. ديموقراطية المؤسسات، وهي التي “تُقتصَر على توافر المؤسسات التي تُمَارَس عن طريقها الديموقراطية مثل البرلمان والأحزاب والنقابات والإجراءات الانتخابية”.
  2. الديموقراطية الشعبية، وتلك هي التي “تتمثل في اتساع نطاق المشاركة في الأنشطة المدنية”.

وفي سبيل الربط بين هذين النمطين يقول ماجد موريس نفسه: “لا نُعتَبر مغالين إذا قلنا إن المجلس التشريعي – أياً كان مسماه – ليس هو المظهر الوحيد للديموقراطية، ولا هو الدليل الوحيد عليها، البرلمان إلى جانب المسرح والمكتبة وساحة القضاء والعدل، والمعبد وقاعة المحاضرات والمنتدى، كلها إلى جانب بعضها البعض هي علامات وأدوات الديموقراطية في آن، وبدون أي منها تكون الديموقراطية منقوصةً”، وفي واقع الأمر نجد أنه من الممكن أن يتم التأسيس لنظام حكم ديموقراطي، وأن يتم تحقق الشفافية المطلوبة والمصداقية في كل إجراءات انتخاب مؤسسات الإدارة والحُكم، لكن استدامة مثل هذه الديموقراطية الناشئة وتطويرها يعتمد على بناء ثقافة ديموقراطية، وهذا ما أشار إليه عليُ الدين هلال قائلاً: ” الاحتفاظ بالديموقراطية مهمةٌ لا تقل صعوبةً عن تأسيسها” وهو ذات ما يؤكده ماجد موريس قائلاً إن الديموقراطية: “لا تُنشئها قوانين، ولا تقيمها مؤسسات، ولكنها تعتمد على تطوير شامل في كل وظائف المجتمع مثل التعليم والتربية، والتنمية والإعلام، والإبداع والتفرد ومفهوم رأس المال الاجتماعي، والموقف من الأقليات”، ولعل هذا هو ما يفضي إلى نمط الديموقراطية العميقة profound democracy وهي التي تطال كل مناحي الحياة بدءاً من البيت مروراً بكل مؤسسات المجتمع التي يلتقي فيها أفراده على مختلف مواردهم وتوجهاتهم. وإذا ما عدنا إلى السؤال المطروح في مبتدأ هذه الورقة عن أي مفهومٍ للديموقراطية نتحدث حال ربطها بالفنون؛ فسنجد أنفسنا في حاجة لتحقيق الأربعة أنواع التي طرحتها الأسئلة، وذلك بتحقيق الديموقراطية في مستواها الإجرائي المؤسساتي الذي يتيح مشاركةً مدنيةً واسعة؛ ويحفظ الحقوق، وصولاً للديموقراطية العميقة التي تصبح ثقافةً شعبية يتمثلها أفراد المجتمع في كل شؤونهم العامة والخاصة، ولعل في التعريف الذي يسوقه ماجد موريس ما يبين لنا نوع الديموقراطية المنشودة في حال ربطها بسؤال الفنون، وهو التالي:

“الديموقراطية الحقيقية العميقة مشروع مستمر في الزمن، ومستمر في إطار الجدل بين الفرد والمجتمع. ديموقراطية اجتماعية تنفذ حتى الجذور، تساؤلية واستطلاعية بإصرار، تحرص على الحركة وترفض البديهيات، احتوائية لا تُقصي وتعاونية تشاركية لا تستبعد، وتتطلب توسيع دائرة المشاركة النشطة من طلبة المدارس والصبية والشباب والجماعات المهمشة والأقليات كيما تتعاون جميعها في بناء مستقبلٍ أفضل”.

ديموقراطية الموسيقى والغناء في السودان:

أستهل هذا الجزء بمقولة أعجبتني وما فتئت أرددها وأنسبها إلى قائلها الأستاذ خالد الفانوب الإعلامي والمهتم بشأن الغناء في السودان وقد قال: “المشروع الغنائي هو المشروع الوحيد الناجح في السودان” وذلك في مقابل المشروع السياسي العريض بكل تعرجاته بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية وحتى التنظيمية، وفي مستوياته الفكرية، كذلك في مقابل مختلف المشاريع الأخرى ومنها الرياضي والثقافي في بعده الاستراتيجي، وغير تلك من المشاريع التي لم تنجح ولم يجتمع حولها السودانيون كما اجتمعوا حول الغناء، متجاوزين لأي ضربٍ من الفروق العرقية أو الثقافية، سواء كان ذلك على مستوى السودانيين كمتذوقين لفنون الغناء والموسيقى أو على مستوى مُنتجي هذه الفنون بمختلف مشاربهم ومرجعياتهم الثقافية التي وردوا منها.

وإذا ما نظرنا إلى هذا الأمر في إطاره الخارجي متمثلاً في من أنتجوا الموسيقى السودانية الحديثة؛ وهي الممتدة منذ نهايات العقد الثاني للقرن العشرين وحتى وقتنا الراهن؛ فسنقف على حقيقة أن تبوؤ أيٌّ منهم لموقعه لم يأت إلا على أساس انتخابٍ طبيعيٍ أهلتّه فيه جدارته الفنية ولا شيء سواها، ولنقس على هذا الافتراض مرجعيات البعض من أعلام هذه الموسيقى بدءاً بمحمد وردي الآتي من أقصى شمال السودان، وصولاً إلى رمضان زائد وعبد الله دينق في أقصى الجنوب، دون أن نغفل عن سبت عثمان الآتي من جبال الأنقسنا، أو إبراهيم موسى أبّا وأُم بلينا السنوسي من كردفان، أو عمر إحساس وحواء رمضان من دارفور ، وآدم شاش ومحمد البدري من جبال البحر الأحمر، ولننظر إلى ما بين هذه الأوتاد ممن أتوا من أرض البطانة، أو من الدبيبة وشرق النيل، الجزيرة بمُدُنها  وحلّالِها، ومن بلاد الشايقية، أو السكوت والمحس والدناقلة والجعليين، وربما لا نعرف موارد العديدين منهم أو من أي الأقاليم أو القبائل أتوا، لكن احتل كل منهم مكانه بموجب جدارته وأهليته الفنية التي كانت بمثابة المضمون لذاك الإطار الخارجي، تلك الأهلية التي لم تنبَت عن جذورها دون شك، فمطربٌ مثل النعام آدم أو عثمان اليمني رغم إغراقهما في الطابع المحلي الذي يمثلانه، إلا أنه لم يقتصر الاستماع إليهما على أهلهما من قبائل الشايقية، ولم يبحث الناس عن موقع قرية “حليوة” في خارطة الجزيرة المروية حتى يجيزوا استماعهم لما شدى به محمد طه القدّال، ولا يدري أحدٌ على وجه الدقة ما هي المرجعيات الثقافية والعرقية لأفراد فرقة عقد الجلاد أو السمندل، لكنهم تفاعلوا معهمكما تفاعل آباؤهم مع أولاد حاج الماحي وحاج التوم من الله والسماني أحمد عالم، ومع بادي محمد الطيب ومحمد أحمد عوض وعائشة الفلاتية ومُنى الخير وأماني مُراد وغيرهم، وإن دار حديث عن أصول أيٍ منهم فما ذلك إلا من باب الاستزادة في القول ومحاولة التنظير حول مشروعه الفني، وهل من تأكيد على سطوة الأهلية الفنية أكثر من مثال  الشاعر محمد ود الرضي الذي يُوردُ عنه الفاتح الطاهر أنه: “لم يكن إلا مجرد بائع متجول بسيط في سوق أمدرمان، وقد اشتكى بعض الشعراء المثقفين إلى إبراهيم العبادي من سَرور الذي لا يُغني أشعارهم؛ بل يُغني ترهات بائع فقير من الشارع يبيع القرع” فما كان من العبادي إلا أن أجابهم بأن الموهبة لا صلة لها بالثراء، مُذكراً لهم بأن المطرب سَرور نفسه –الذي يتطلعون لأن يُغني أشعارهم- لم يكن فيما مضى إلا مجرد راعٍ للأغنام.

أيضاً انتصرت الموهبة مرةً أخرى في نهاية عقد الخمسينيات من القرن العشرين عندما تغنى رائد موسيقى الجاز في السودان الموسيقار عثمان ألمو باثنتين من روائع الموسيقى والغناء في السودان هما (جنة الأنغام) و(معبد الأحزان) وكلمات الأغنيتين كتبها الشاعر حسين جقود؛ والذي لم يكن شاعراً من طبقة المثقفين أو الأفندية أو الأكاديميين أو الإداريين، بل كان صاحب مطعم؛ يأتي إليه مساءً عثمان ألمو صحبة أصدقائه من الموسيقيين لتناول وجبة الفول التي يصنعها حسين جقود؛ الذي لم يتعرفوا على شاعريته إلا بعد مرور عامين عندما طلب منهم على استحياء أن يطّلِعوا على بعض قصائده، فكانت تلك النقلة عبر هاتين الأغنيتين.

وعندما شاد محمد الأمين بناء ملحمته (قصة ثورة) لم يفكر في خلق نوعٍ من التوازن الاجتماعي عندما استصحب معه عثمان مصطفى وخليل إسماعيل وأُم بلينة السنوسي وبهاء الدين عبد الرحمن، بل كان اللون والطابع الصوتي والأدائي لأيٍ منهم هو الفيصل في اختياره له، ثم لذات السبب تم قَبُول مشاركة أيٍّمنهم لدى المتلقي، وصار كلٌ منهم بمثابة جوهرةٍ كريمة في تلك الأيقونة التي انتقلت عبرها الأغنية السودانية إلى أفقٍ جديد من تقنيات التأليف والتفكير الموسيقي.

كذلك لم يجمع عائشة الفلاتية وإسماعيل عبد المعين أو علاء الدين حمزة سوى تلك الأهلية الفنية والهم المشترك في صون الموهبة وتقديمها بما يليق بها من منتوجٍ فني جعل منها رمزاً ينتخبه ويتفق حوله السودانيون ويأتمنونه على أذواقهم وأمزجتهم.

رحل الفنان مصطفى سِيد أحمد في العام 1996 وما زالت روابط معجبي فنه تُنشأ وتؤسس على نحوٍ متصل، كذلك شكلت ظاهرة “الحوت” محمود عبد العزيز و”الحوّاتة” بُعداً لا يُستهان به في الحياة الثقافية والاجتماعية السودانية، فقدْرُ إجماع الشباب على تقدير هاتين الشخصيتين لم يحظ به زعيم أو سياسي أو رمز حزبي، ولعل هذا الأمر يوقفنا على ما تناقلته الأسافير عن قول رياك مشار: “تأكدتُ بأنني لست زعيماً سودانياً، ولا الصادق ولا الميرغني ولا قرنق أو أي شخص؛ وإنما الزعيم الحقيقي هو الفنان محمد وردي” وكان ذلك في العام 1997 فيأديس أبابا، لكن حتى إن لم تكن تلك واقعةٌ تاريخية مثبتة؛ فإن فيها من الحقيقة الكثير مما يكشف عن مدى التفاف السودانيين بكل ألوان طيف تنوعهم حول الموسيقى والغناء كرابطٍ وجداني مشترك، وهو رابط لم ينشأ من فراغ؛ بل عملت الأجهزة الإعلامية من إذاعة وتلفزيون وصحافة – عندما كانت قومية التوجه – على توطيده، وهو ذات الرابط الذي نحتاج الآن إلى فهمه وتفعيله من أجل بناء ثقافةٍ ديموقراطية شعبية عميقة.

تبادلية العلاقة بين الديموقراطية والفنون:

“الديموقراطية يحققها الشعب ولا يمنحها السياسيون، ولا تمنحها النخبة للجماهير، يحققها الشعب فقط عندما يصرخ: أنا الشعبُ، أنا الذي حاصر الطاغية وطابوره الخامس في الأكروبولس”.

إن اقتصر أمر بحث علاقة الديموقراطية بالفنون وفنون الغناء والموسيقى –بخاصة- لإيجاد آلياتٍ مباشرة لتوصيل مفاهيم الديموقراطية وإجراءاتها؛ فنخشى أن يكون الأمر على شاكلة (نقولا نعم وألف نعم) أو (بالملايين قلناها نعم ورددناها طرب ونغم) أو (يا ريس براك شفتَّ، أروع وأعظم استفتا) وكل تلك الأغنيات الدعائية وإن صدرت من مطربين سودانيين سَمَتْ وعلت أقدارهم؛ إلا أنها لا تصب في إطار بحث العلاقة بين الفنون والتأسيس لحياةٍ ديموقراطية كريمة، بل يجب أن يأتي توظيف الفنون بكل ضروبها المرئية والمسموعة والمحسوسة من تشكيل، دراما، خطابة، مونولوج، رسم وتلوين، تصميم وجرافتي، موسيقى وغناء، التشكيل الحركي وتكوين المجاميع واللوحات البشرية، الكرنفالات والرقص وكل ما يتسم بالابتكار والفكر والعمل الإبداعي؛ يجب أن يتم توظيفه بغرض رفع الوعي بقيم الديموقراطية، وتوصيل مفهوم الديموقراطية الشعبية العميقة من خلال الوسائط المرئية والمسموعة ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب وسيلة التفاعل الاجتماعي والتي يتم فيها إشراك الجمهور المستهدف في الفعل الإبداعي أياً كان نوعه، الأمر الذي يخلق بدوره نوعاً من الثقة المتبادلة وتشاركاً في تبنّي الفكرة المعينة وتطويرها؛ بدلاً عن مجرد تلقيالجمهور لها عن طريق التلقين، وقد تحقق هذا الأمر في نموذج المدينة الفاضلة التي بناها السودانيون في ساحة الاعتصام المجيد حول القيادة العامة في الخرطوم وفي مُدن السودان الأخرى على مدى شهرين من الزمان، كان الكلُ متساوين، وعلى درجة عالية من الاستعداد للتفاهم وتقبل بعضهم البعض، وتفهم ما بينهم من فروق آيديولوجية أو اعتقادية، وكان متاحاً لكلِ من آنس في نفسه الكفاءة أن يشارك في أيٍ من تلك الأفعال التي كانت في جملتها إبداعية حتى على مستوى الطبخ وتحضير الوجبات، والدعوة لتناول الشاي، ونظافة الميدان، بل بدءاً بالدخول إلى الميدان حيث كان يتم توصيل معلومة ضرورة أن يتم تفتيش الشخص حرصاً على سلامته بشكلٍ إبداعي يزيل كل غضاضة من النفس، ويُحوّل عملية التفتيش إلى شكلٍ من التفاعل الاجتماعي الحميد، الأمر الذي ما كان ليحدث لو لم تُستخدم الموسيقى والإيقاع والوزن والجرس في تقريب المسافة وكسر الحواجز.

وبقراءة ذاك الواقع المجيد والذي إن كان قد قُدِّر له أن يبلغ منتهاه؛ نستطيع أن نتأكد من أن تلك الآليات الإبداعية التي ربطت بين أبناء الشعب السوداني بمختلف سحناتهم ولغاتهم وتنوعهم الثقافي؛ هي الأكثر أهليةً وجدارة لتقريب وجهات النظر وإزالة سوء الفهم والالتباس، وإنها كانت لتنمو وتتطور وتصب في إطار رفع قدرة الفرد على الاختيار والانتخاب، وذلك نسبةً لقدرتها المُجرّبة على رفع درجات الوعي الاجتماعي ومراعاة الفروق بعينٍ فاحصة وعقلٍ مفتوح. ما راج من شعاراتٍ وما صمد منها؛ تم الاقتراع عليه، وتم انتخابه بوعيٍ جمعيٍ كامل، فشعارٌ مثل “يا عُنصري ومغرور كل البلد دارفور” لا يمكننا معرفة مبتكرهُ أو من أطلقه أول مرة، لكن تم تبنيه من قبل الجميع دون نقض، ولم يصدر شعار مضاد له.

ويفوتنا الكثير إن لم ننظر إلى المفردة “مدنيااااو” كمُنتجٍ إبداعي تم انتخابه والإجماع عليه لجدارته وأهليته فنياً لا لمجرد قيمته ومعناه فقط، وربما كانت هنالك شعاراتٌ تم طرحها ولم ينقصها الصدق؛ لكنها لم تجد حظها من الخلود لضعفٍ في بنيتها الفنية من حيث النظْم والتكوين والإيقاع والجرس.

إذاً اللمسة الإبداعية على الأفعال ليست مجرد أمرٍ ثانوي، أو سطحي يأتي على سبيل الزيادة وبغرض التغليف، بل هي الأُسُ في تحقيق معنى الفعل، والفعلُ بدونها قد لا يكون مفهوماً، أو مُجتزأ الفهم، فالكلام عند الإنسان عملياتٌ إبداعيةٌ معقدة ما بين قوةِ نبرٍ وضعفِ آخر، ما بين تنغيم وإيقاع، ومدٍ وقطع، وديناميكية تتراوح ما بين القول همساً حتى الصراخ، فلا نحسبن أنه نسبةً للسهولة التي نتكلم بها أن الأمرٌ بسيط وتلقائي، فلنعد بالذاكرة إلى ما عانيناه في الطفولة من تعلُّمٍ ومران اقتضى منا السنوات حتى نتقن آلية الكلام للدرجة التي جعلتنا لا ننتبه معها إلى أنه فعلٌ إبداعي.

خاتمة:

ختاماً لهذه الورقة ولملَمَةً لأطرافها التي تمددت ما بين مفاهيم الديموقراطية والإبداع وفنون الغناء والموسيقى؛ دعونا نعود إلى مُبتدَئِها وما طُرح فيه من أسئلةٍ حتى نتمكن من تحقيق غاية ضرورة الربط ما بين الفنون والإبداع والحياة الديموقراطية الكريمة.

1/ كيف تؤثر الديموقراطية في ازدهار الفنون ونهضتها؟

وقفنا على تأثير الديموقراطية في معناها الحقيقي في ازدهار الفنون من خلال تطبيق مبدأ المواطنة الحقة والمساواة بين جميع المواطنين على أساس ما لدى كلٍ منهم من إبداع، فمع حالة الفنان ومُنتَجِه الفكري الإبداعي لا يبحث الناس عن مسوغ للتعامل مع هذا المُنتج سوى جودته؛ ودرجة الصدق التي تنتقل به من حدود تعبيره عن هذا الفنان إلى حالة إنسانية أشمل يجد فيها أي إنسان آخر ضالته، فيشبعه عاطفياً؛ ويُعبر عنه ويكفيه مؤونة القول الذي لم يقدر على الإتيان به هو، ويتطور الفنان ويزداد إبداعه بهذا التلقّي، هذا على المستوى التواصلي ما بين الفنان المُبدع ومتذوقّي فنه.

من جهةٍ ثانية؛ حين إنجاز الديموقراطية  في مستواها الإجرائي وبناء مؤسساتها على مستويات الإدارة والحُكم والنقابات؛ فهناك الكثير مما ننتظر تحقيقه في السودان، ويبدأ هذا المُنتَظَر بقيام كل مؤسسة بدورها الحقيقي؛ فتنصرف وزارة الثقافة لتنمية ورعاية العمل الثقافي بكافة أشكاله من آدابٍ وفنون، فتعمل على إيجاد البنية التحتية من تأسيسٍ للمسارح والأندية والمتاحف وصالات العرض وقنوات التوصيل المسموعة والمرئية؛ على قدم المساواة بين حواضر وأرياف السودان، وأن تؤسس للتواصل الثقافي ما بين أنحائه العديدة وألا تُقتَصر إقامة هذه الفعاليات التواصلية في المركز أو العاصمة؛ بل أن تُوزع على مُدن وقرى السودان المختلفة، وقياساً على مهرجان (أصيلة) يمكننا أن نؤسس لمهرجان (الضعين) للأغنية التراثية، أو مهرجان (سنكات) للآلات الوترية؛ مثلاً، إلى آخر هذه الاحتمالات؛ على أن تكون مهرجانات عالمية،  وغنيٌ عن الذكر ما يستتبع مثل هذه المهرجانات من تنمية اجتماعية واقتصادية للمدن أو القرى التي سوف تحتضنها على مستوى البِنَى التحتية؛ والطرق الموصّلة إليها وازدهار العمالة والموسمية منها بخاصة. أيضاً عليها أن تؤسس  وتموّل المهرجانات والكرنفالات والوِرش والدورات الإبداعية والتبادل الثقافي إقليمياً وعالمياً، إلى جانب تحمل مسؤوليتها في تأهيل الكوادر العاملة في حقول الفنون المختلفة تأهيلاً فنياً يتيح لها التطوّر ومواكبة تكنولوجيا العرض والتقديم والإدارة لأي ضرب من ضروب الفنون وأوعيتها من مؤسسات أو فعاليات.

كذلك ستفعل وزارات التربية، والتعليم بشقيه العام والعالي؛ ووزارات الشباب والرعاية الاجتماعية، حيث نأمل أن تضطلع كل منها بدورها في دعم وتنمية العمل الفني والثقافي على مستوى المناهج والمؤسسات التعليمية العامة كالمدارس في مراحلها المختلفة وفي الجامعات، المراكز الثقافية ومراكز الشباب ورعاية المواهب، وعلى المستوى التخصصي متمثلاً في المعاهد العليا والأكاديميات، وفي تأهيل الكوادر في مجالات البحث والعمل الاجتماعي لرفع درجة وعي المجتمع بأهمية الفنون والموسيقى والغناء وإزالة اللبس المُفتعل حول حرمتها، وتصحيح المفاهيم حولها وبيان دورها وأهميتها التربوية في رفع القدرات العقلية للمتعلمين في مختلف مراحل التعلّم؛ أُسوة بالعلوم الأخرى من  رياضياتٍ ولغاتٍ وغيرها، وتصويب الفهم الخاطئ بأن في تعلّم الفنون ومزاولتها ضياعٌ لوقتٍ أجدى أن يُستفاد منه في تحصيل العلوم الأخرى، كل هذا التحوّل لا يمكنه ان يُثمرَ إلا في ظل مؤسساتٍ وطنية تحتكم إلى مبادئ وأسس العمل الديموقراطي.

2/ كيف تساهم الفنون في ترسيخ الديموقراطية؟

يتطلب بناء ثقافة ديموقراطية شعبية تراكماً في الوعي، وبناء هذا الوعي بدوره يعتمد على الفنون وما يميزها على بقية العلوم الإنسانية من قدرةٍ على تنمية القدرات العقلية ومراعاة الفروق بين الأشياء، من خلال اعتمادها على دقة الملاحظة واعتماد آلية التحليل العميق، سواءَ كان ذلك بوعي وإدراك أو تم ضمن عمليات عقلية معقدة قد لا يشعر بها الشخص، ومن أمثلة ذلك أن علاقات البناء النغمي والإيقاعي لأي لحنٍ مسموع تتحول إلى موجات وعلاقاتٍ فيزيائية وحسابية داخل عقل الإنسان.

من جهةٍ ثانية تُسهم الفنون في ترسيخ الديموقراطية وعلى نحوٍ تطبيقي، ذلك أن طبيعة إنتاج العمل الفني الصادق لا تحتمل المجاملة او المحاباة، كما لا تحتمل الضعف التقني في امتلاك ناصية الفن المُعين، فالفنان إن لم يمتلك موهبةً وقدرةً حقيقية، فسوف لن يلاقي النجاح، فليس هناك سَمَة سبب لمجاملته؛ ولنا في حياتنا السياسية في السودان العديد من التجارب التي حاولت أن تصنع فنانين في مجالات الفنون التشكيلية والموسيقى والغناء بخاصة للترويج لتوجهاتها، لكننا لا نستطيع أن نستحضر اسم أي منهم الآن بخير، أو أن نضعه كنجمٍ ضمن قوائم المبدعين المنتخبة والمعتمدة جماهيرياً على مدى عقودٍ عديدة.

إذاً ما نحتاجه هو نقل هذه الخاصية المتمثلة في الصدق الفني إلى رحاب العمل الاجتماعي والإداري والسياسي القائم على مؤسساتٍ ديموقراطية حقيقية؛ لا تقبل الضعف أو المجاملة والمحاباة، أو تغليب المصلحة الخاصة، فهذا ليس من خصال الفنون والفنان الحقيقي، والتربية الفنية والموسيقية حريٌ بها لعب هذا الدور في الارتقاء بأعضاء المجتمع ورفع قدراتهم على مراعاة الفروق والانتخاب؛ وتفعيل هذه الآلية على المستوى السياسي والاجتماعي بغرض التأسيس لثقافة الديموقراطية تربوياً وعلى نحوٍ عملي، ولعل هذا هو ذات ما أشار إليه جون استيوارت مِل قائلاً: “الهدف من التعليم هو إعداد الناس للمواطنة في مناخ ديموقراطي، حتى أنه كلما تحسنت قدراتهم على الاختيار انعكس هذا على خياراتهم السياسية بما يحقق الصالح العام للمجتمع”.

3/  هل تثبت تجربتنا الداخلية هذه العلاقة؟

من خلال ما تم عرضه من دراسةٍ عن الموسيقى السودانية الحديثة وكيفية تكوّنها ونشأتها وتطورها على المستوى الخارجي متمثلاً في المرجعية الإثنية والثقافية لبُناة هذه الثقافة، وعلى مستوى المضمون متمثلاً في الأهلية الفنية التي كانت سبباً وراء انتخاب وفاعلية رموز هذه الثقافة، من خلال ذلك يمكننا الوثوق في إثبات تجربتنا الداخلية لعمق الصلة بين الفنون والغناء والموسيقى بخاصة؛ وبين الديموقراطية في معناها العميق.

أيضاً أثبتت تجربة الاعتصام المجيد عمق الصلة وجذريتها بين الفنون والإبداع والموسيقى بما فيها من تفاصيل الإيقاع والنغم والأداء، فالموسيقى بمعناها العريض والشامل بما فيه المسموع والمرئي؛ كانت بمثابة الخيط الناظم لحبات عقد الاعتصام النضيد بكل ألوانه وتنوع مكوناته.

4/ هل تثبتها تجارب العالم؟

تثبت تجارب العالم من حولنا صلة الديموقراطية بالفنون عبر نموذج التجاوز لكل الفروق الإثنية والثقافية حين العثور على موهبة حقيقية، ومن الأمثلة على ذلك يوسف السيسي قائد الأوركسترا المصري والذي قاد أضخم الأوركسترات في روسيا، النمسا وألمانيا، “الأمر الذي يُعدُ تجاوزاً لكثير من حقائق الاستعلاء العرقي والثقافي، إذ إن طبيعة العطاء الموسيقي تتجاوز بالفرد كل حدود العرق والنوع وتضع الآخرين أمام بصمته الخاصة والتي لن يستطيع أن يوفرها غيره، فأعظم الأوركسترات السيمفونية في العالم لا تخلو من الأجانب وسط أعضائها مهما كانت درجة اعتداد أهلها بأصلهم وعرقهم، فالآن وفي أوركسترا (ميوزويم أوركستر) في ألمانيا تعمل بسمة عبد الرحيم ويعمل زوجها كامل صلاح الدين وهما من مصريين، يعملان وسط مائة وخمسة من الزملاء الذين تبلغ نسبة الأجانب بينهم أكثر من 10% من أمريكا، اليابان، فرنسا، الهند، إيطاليا، البرازيل وسويسرا، ووسط المائة وأحد عشر عازفاً الذين يكونون أوركسترا راديو فرانكفورت؛ فإن خمسةً وعشرين منهم أجانب، وهو حال معظم الأوركسترات في ألمانيا” بل في انحاء العالم المختلفة.

5/  كيف تصبح الفنون الموسيقية أداة تثقيفٍ ديموقراطي؟

تصبح الفنون الموسيقية أداة تثقيف ديموقراطي عندما يتم الانتباه إلى دورها التربوي، فممارسة النشاط الموسيقي على أي مستوى كان؛ للهواة أو المحترفين يكشف عن التزام صارم بأُسس ومبادئ المساواة والعدالة وحرية التعبير والتجاوب والتفاعل بين الأفراد المكونين لمجموعة الأداء الموسيقي؛ أياً كان عزفاً أو غناءًأو رقصا، حيث لا جدارة إلا للعازف الماهر، وللمغني البارع وللراقص المبدع، وحتى هؤلاء لا يطلق العنان لأيٍ منهم ليفعل ما في هواه بقدر التزامه بالخط العام للعمل المؤدىَ، ولا يرتقي أيٌ من أفراد المجموعة لقيادتها إلا بموجب ما يثبته من جدارة ومعرفة وتفوّق، الأمر الذي يُشكلُ بدوره حافزاً للارتقاء وتطوير الذات لدى أفراد المجموعة؛ سواءَ كانوا أطفالاً في مدرسةٍ أو نادٍ، أو كانوا موسيقيين محترفين في أوركسترا سيمفونية، حيث لا سبيل لحفاظ أي منهم على مركزه إلا بحرصه على التدريب والدراسة وتنمية المهارات. أيضاً يتعلم الأطفال بشكلٍ عملي أن لكلٍ منهم دور يؤديه من خلال مجموعته؛ حيث يتطلب منه هذا الدور أن يصمت أحياناً ويستمع إلى بقية المجموعة؛ وأن يكون مستعداً للحظة التي سيعود فيها لمواصلة الأداء، كما أنه فيأدوار أخرى يؤدي منفرداً أو ضمن مجموعة أصغر، ولا يستطيع مؤدٍ موسيقي النجاح في مهمته ما لم يستمع جيداً وفي كل لحظة للمجموعة التي هو جزء منها.

يصب كل هذا في إطار التربية المدنية تطبيقياً، حيث يتم التدريب العملي على أن لكلٍ دوره، وأن له حقوقاً تتساوى مع حقوق الآخرين، وأن عليه واجبات لا بد من الإيفاء بها حفاظاً على سلامة المجتمع الذي تمثله في هذه الحالة مجموعة الرقص أو الإنشاد والغناء، أو الفرقة الموسيقية، أو كل ذلك مجتمعاً بكل ما يحيط به من فنيين ومدربين ومشرفين، فممارسة النشاط الموسيقي فعاليةٌ اجتماعية من طراز رفيع، لا يحالفها النجاح إلا من خلال الالتزام التلقائي من كل فردٍ بالدور المنوط به ، الأمر الذي عادةً ما يتم بغاية الرضا والتوافق، وهذا هو البُعد التربوي الذي تجب تنميته وتعزيزه في المواطن منذ النشأة؛ حتى وإن شب عليه استطاع أن يطبقه في مناحي حياته كافة. لذا لم تكن مقولة “اسمِعني موسيقى شعبٍ؛ أريك على أي درجةٍ من التحضر هو” بالمقولة التي صدرت هكذا جزافاً، بل لها أصلها التاريخي في حضارات العالم القديم في شرقيه الأدنى والأقصى، وصارت في حد ذاتها مبحثاً فلسفياً؛ لذا لا نستغرب الأمر إن لم تخل النظرية الفلسفية لأي فيلسوف من مبحثٍ في الموسيقى وتأثيراتها.

من جهةٍ ثانية وحول كيفية جعل فنون الموسيقى أداةَ تثقيفٍ ديموقراطي؛ أي في حالة التوظيف المباشر للموسيقى والغناء في تأسيس وبناء الثقافة الديموقراطية مبنىً ومعنى، فمن المؤكد أن تغليف الشعارات والمعاني والمفاهيم موسيقياً سوف يساعد على استيعابها، لا في شكل الغناء فقط؛ بل في كافة الأشكال التي تدخل فيها الموسيقى كالألعاب الموسيقية بالنسبة للأطفال، والأوبريت والمسرحية الغنائية، الأمر الذي يعتمد على مدى الحصافة في توظيف هذه القوالب وتحميلها بالمضامين المُراد توصيلها للجمهور المتلقي، وتجنب أن تكون مباشرةً ومنفّرة، والانتباه إلى عدم تحويلها إلى مواعين فنية يتم تحميلها بالدعاية الآيديولوجية التي تهدف إلى الحشد والاصطفاف وراء الأحزاب والتنظيمات في مواسم الانتخابات والمناسبات السياسية، فيتم بذلك استغلالها بشكلٍ لا يليق والهدف المتمثل في بناء ثقافة ديموقراطيةٍ شعبيةٍ عميقة.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى