أخبارأعمدة ومقالات

معضلة الانتقال الديمقراطي في السودان بعد استسلام حمدوك للانقلاب

رشا عوض

معضلة الانتقال الديمقراطي في السودان بعد استسلام حمدوك للانقلاب

رشا عوض

وجد السودانيون أنفسهم صبيحة الحادي والعشرين من نوفمبر 2021 أمام نسخة جديدة من الانقلاب على ثورة ديسمبر المجيدة، وهي النسخة الأكثر مرارة من سابقاتها(انقلاب 3 يونيو 2019بعد مجزرة فض الاعتصام، وانقلاب 25 أكتوبر 2021)، لأن رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك الذي كان لدى جموع كبيرة ومتنوعة من الشعب السوداني رمزا للانتقال المدني الديمقراطي وممثلا للشرعية في الفترة الانتقالية استسلم للانقلاب بصورة تفتقر لأدنى درجات الحساسية  للرأي العام وللشارع الثائر الذي قاوم الانقلاب مستقبلا رصاص الغدر في رؤوس وصدور شباب وشابات في مقتبل العمر، استشهد منهم العشرات وما زال المئات منهم يئنون تحت وطأة الجروح الجسدية الغائرة والتي أضيف اليها جرح معنوي كبير ومؤلم  هو ذلك الاتفاق البائس بين حمدوك و قائد الانقلاب العسكري الفريق اول ركن عبد الفتاح البرهان..

في هذه اللحظات المفصلية من تاريخنا، نحتاج أولا   لفهم واقعنا السياسي بعمق، وتوصيفه كما هو بنظرة موضوعية، ومن ثم استكشاف وسائل تغييره في اتجاه الهدف الذهبي الذي تهتف به الملايين في الشوارع وهو الانتقال لدولة مدنية ديمقراطية تحقق السلام والحرية والعدالة، وفي هذا السياق لا مفر من تجاوز محطة الشعارات والعموميات إلى مرحلة النقاش المفصل حول مواصفات “المشروع الوطني” الذي نسعى لضبط بوصلتنا السياسية باتجاهه،  وترتيب الأولويات واختيارآليات العمل المناسبة في مراحل إنجازه على أرض الواقع ، وتأسيسا على ذلك هناك حزمة من القضايا التي تتطلب وضوحا في الرؤية الفكرية وامتلاكا فعليا لأدوات العمل السياسي، سأستعرض في هذه المقالة أهمها من وجهة نظري، انطلاقا من الأسئلة التالية:

أولا: هل عاد مسار الانتقال المدني بعودة حمدوك رئيسا للوزراء؟

الإجابة لا كبيرة! وذلك بالاستناد إلى  الاتفاق الذي تم توقيعه بين حمدوك والبرهان الذي بررت ديباجته انقلاب 25 اكتوبر 2021 بذات مبررات البرهان ممثلة في ان “الصراعات بين القوى السياسية أصبحت مهددا لوحدة واستقرار وامن البلاد، ونتيجة لفشل كل المبادرات في احتواء الأزمة السياسية ترتب على ذلك اتخاذ إجراءات وقرارات بواسطة القائد العام للقوات المسلحة بتاريخ الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 ” ، كما وصفت الديباجة ما حدث بأنه تصحيح! إذ ورد فيها بالنص:”تعهد الطرفان بالعمل سويا لاستكمال مسار التصحيح الديمقراطي بما يخدم مصلحة السودان العليا..” والبنود الأربعة عشرة التي حواها الاتفاق وردت مسبوقة بعبارة:

“تأسيسا على قرارات القائد العام للقوات المسلحة اتفقا على الاتي”، هذا معناه أننا أمام عملية سياسية مرجعيتها قرارات “جنرال انقلابي” والسلطة الفعلية فيها بيد الانقلابيين، إذ ان “المجلس السيادي” الذي شكلوه بنص الاتفاق سيكون “مشرفا” على الفترة الانتقالية، وقد اثبتت تجربة العامين الماضيين ماذا تعني مفردات “مشرف وتشريفي” في قاموس العسكر! فعندما كانت الوثيقة الدستورية الحاكمة تنص على “الدور التشريفي لمجلس السيادة الانتقالي” اختطف المكون العسكري ملفات السلام والعلاقات الخارجية وتغول على اهم مجالات العمل التنفيذي، وحتما سيكون الوضع الآن أكثر سوء بعد الانقلاب على الوثيقة الدستورية التي تم توقيعها عام 2019  بين طرفين هما المكون العسكري و”قوى الحرية والتغيير” الحاضنة السياسية للحكومة، الآن أطاح العسكر بهذه القوى ووقعوا اتفاقا مع حمدوك الذي ليس لديه اي صفة دستورية او قانونية للتوقيع على اتفاق نيابة عن قوى الثورة!  وبعيدا عن الجدل الدستوري والقانوني، فإن حمدوك بوضعيته الراهنة هو مجرد موظف تحت سيطرة العسكر، الذين اعتقلوه وقتما قرروا ذلك، وحددوا له مكان إقامته، وكان لا يستطيع مقابلة اي شخص او جهة سياسية أو إعلامية إلا بإذنهم! ثم أفرجوا عنه بعد ان أذعن لانقلابهم ووقع على “وُرَيقة صفراء” تبنت بشكل كامل سردية الانقلابيين بخصوص الأزمة السياسية في البلاد!

لماذا فعل حمدوك ذلك؟

زعم انه وقع الاتفاق حقنا للدماء، وحفاظا على انجازات العامين الماضيين ورغبة في استكمال الانتقال المدني الديمقراطي بإقامة انتخابات عامة بعد سنتين!

ولكن حمدوك لم يخبرنا كيف سيحقن الدماء باتفاق مع المسؤولين عن سفكها، وهو اتفاق  لم يذكر كلمة واحدة عن إصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية، او عن العدالة الانتقالية؟ في مثل هذه الأوضاع سيكون السبيل الوحيد لحقن الدماء هو الاستسلام التام لمشيئة الانقلابيين والامتناع تماما عن اي فعل سياسي ضد انقلابهم! وما بمثل هذا تحقن دماء الاحرار!!

أما الانتقال المدني الديمقراطي فلن يتحقق بمجرد عودة حمدوك رئيسا للوزراء، إذ ان مدنية الحكومة الانتقالية تعني باختصار ان عملية صنع القرار التشريعي او التنفيذي تتم بواسطة القوى المدنية  عبر آليات ديمقراطية في ملعب سياسي متحرر من “الفيتو العسكري المفروض بقوة السلاح”، وبداهة بعد الانقلاب انعدمت اي فرصة لتحقيق شرط “الانتقال المدني الديمقراطي” واختزل معنى المدنية في مجرد تكوين حكومة رئيسها  ووزراؤها  “أفندية وافنديات” من خلفيات مهنية غير عسكرية، يرتدون ملابس مدنية أنيقة ويأتمرون بأمر العسكر دون ان يكون لهم من الامر شئ ! فلن تكون هناك ارادة سياسية مستقلة ومتحررة من وصاية العسكريين المفروضة بمنطق  القوة العسكرية على الحياة السياسية ، وقادرة على صناعة وانفاذ قرارات مصيرية مرجعيتها التوافق السياسي بمنطق السياسة وادواتها الديمقراطية، وبالتالي لن تكون هناك “سلطة مدنية” و”دولة مدنية”.

ثانيا: كيف نستعيد مسار الانتقال المدني الديمقراطي؟

الإجابة الصحيحة على هذا السؤال يجب ان تسبقها اجابة صحيحة على سؤال آخر هو: لماذا فقدنا هذا المسار الديمقراطي ابتداء؟ هل فقدناه لأن قوى الحرية والتغيير التي تفاوضت باسم الثورة قبلت الشراكة مع المكون العسكري بقيادة البرهان وحميدتي وهؤلاء كانوا اساسا جزء من “اللجنة الأمنية العليا” وهي احد مؤسسات نظام البشير وبالتالي فإن الشراكة معهم تعني خيانة الثورة؟ ام فقدناه لأن عملية التفاوض والشراكة لم تدار بالجدية والكفاءة التي تضمن التقدم المطرد في تحقيق أهداف الثورة وكسب مساحات جديدة لصالح التغيير بدلا من زحف الثورة المضادة باهدافها وشخوصها يوما بعد يوم الى أن استولت على السلطة في 25 اكتوبر2021؟

شخصياً اتبنى الإجابة الثانية، للأسباب التالية:

الشراكة مع المكون العسكري فرضتها إكراهات واقع سياسي معقد وتوازن قوى على الأرض، وهذه الشراكة بدأت يوم 6 ابريل 2019 عندما توجه الثوار للاعتصام أمام القيادة العامة للجيش  وهذه إشارة ضمنية لتفويض الجيش للإطاحة بالبشير، إذ ان تنفيذ قرار  انتزاع السلطة من نظام دكتاتوري يحتاج لذراع عسكري يتنزع السلطة وتبعا لذلك تصبح اجهزة احتكار العنف خارج سيطرة الدكتاتور تماما فلا يستطيع استخدامها لقمع الجماهير وحماية نظامه، وبالفعل قررت “اللجنة الامنية العليا” وهي مؤسسة تتكون من قيادات عسكرية وامنية الاطاحة بالبشير في لحظة تاريخية شهدت تفاعلات كثيفة جدا بين عوامل داخلية واقليمية ودولية، هذه التفاعلات ادت الى اتفاق قيادتي الجيش والدعم السريع على التخلص من البشير، ثم اسقاط عوض ابنعوف، كما أنتجت المجلس العسكري بعد عمليات إحلال وإبدال في أعضاء “اللجنة الأمنية العليا”  الأصليين  الذين لم يتبق منهم الآن  سوى البرهان وحميدتي، فقد تم استبعاد كل من مدير جهاز الامن والمخابرات في نظام البشير  صلاح قوش  ونائبه جلال الشيخ، والفريق اول كمال عبد المعروف رئيس هيئة الاركان المشتركة، والفريق اول مصطفى محمد مصطفى مدير الاستخبارات العسكرية، والفريق أول الطيب بابكر  مدير الشرطة والفريق أول ركن عمر زين العابدين  مدير عام منظومة الصناعات الدفاعية، كل هؤلاء كانوا أعضاء في هذه اللجنة بحكم مناصبهم بالاضافة الى وزيري الخارجية والداخلية  في عهد المخلوع: الدريري محمد أحمد وبشارة جمعة .اما الذين تم احلالهم في المجلس العسكري الجديد فهم  جمال عمر(وزير الدفاع في اول حكومة انتقالية وقد توفي بجوبا أثناء مشاركته في مفاوضات السلام) وياسر العطا وشمس الدين كباشي وابراهيم جابر وصلاح عبد الخالق الذي غادر المجلس لاحقا.

واضح ان “اللجنة الأمنية العليا” في عهد البشير كان قوامها شخصيات عسكرية وامنية من العيار الثقيل تنتمي للحركة الإسلامية، وكانت خطة التيار الرئيسي وسط الاسلاميين ان تطيح هذه اللجنة بالبشير وتتنكر في ثياب الانحياز للثورة ومن ثم تؤسس لنسخة معدلة  من نظام الانقاذ عبر مجلس عسكري بقيادة ضابط اسلامي (الارجح كمال عبد المعروف)، ولكن كما رأينا فشل هذا المخطط لسببين هما زلزال الشارع الثائر الذي ما كان ممكنا ان يقبل بشخصيات انقاذية كاملة الدسم في دفة قيادة الفترة الانتقالية ، والسبب الاخر هو تدخلات أذرع مخابراتية إقليمية ضغطت بقوة في اتجاه استبعاد العناصر التي كانت فرس رهان للاسلاميين من المجلس العسكري، والذي فتح الباب لهذا التدخل المخابراتي هو انقسامات الاجهزة الامنية التابعة للاسلاميين ومتاجرة قياداتها بملفات امن الدولة وامن التنظيم الاسلامي نفسه مع المحاور الاقليمية كنتيجة مباشرة للسلطات المطلقة لهذه الأجهزة  التي فرخت فسادا مطلقا دمر الدولة وموارد الشعب السوداني، وكعقاب مستحق ارتد هذا الفساد الى النظام نفسه  فأفشلت عمليات “البيع والشراء المخابراتي” الى حد كبير مؤامرة الاسلاميين للاستمرار في السلطة بعد التخلص من البشير عبر شخوص “اللجنة الأمنية”.

إذن فرضية ان الذي حكم السودان  منذ سقوط البشير في 11 ابريل 2019 حتى الان هو “اللجنة الامنية” ليست صحيحة بالمطلق نظرا لاختفاء اهم عناصرها من المجلس العسكري، ولكن هذا الاختفاء لا يعني ان تأثير الاسلاميين على المشهد قد تلاشى، فنظام الانقاذ ضارب بجذوره في مفاصل الدولة السودانية وعلى رأسها الاجهزة الامنية والعسكرية، فلو كان الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو(حميدتي) لهما مشاريعهما السلطوية الخاصة المدعومة من محور اقليمي معادي للاسلاميين، فإن الاختراق الاسلامي موجود بكثافة في “الدعم السريع” وفي الجيش الذي يقوده البرهان وليس مستبعدا ان تكون العناصر العسكرية التي حلت محل اعضاء اللجنة الامنية الكبار مرتبطة بالاسلاميين او منتمية اليهم سرا، وليس مستبعدا عمل تلك اللجنة عبر وكلاء وراء الكواليس في تخريب الفترة الانتقالية املا في عودة الاسلاميين الى المشهد.

خلاصة هذا الوضع المعقد هي ان “قوى الحرية والتغيير” دخلت في شراكة سياسية ليس مع ذات اللجنة الامنية لنظام البشير كما يتردد من باب المغالطة في ان هناك تغييرا قد حدث وأضعف من قبضة النظام الاسلامي، وفتح كوة في جدار نظام الاستبداد وخلخل وحدة وتماسك المنظومة الامنية والعسكرية الداعمة له، وإنما الشراكة كانت مع “مجلس عسكري” تشكل على خلفية هذه المعطيات التي كان من الممكن  استغلالها لصالح أجندة التغيير لو ان “قوى الحرية والتغيير” كانت تحالفا ناضجا وصاحب رؤية واضحة وانحياز أمين لمشروع التحول الديمقراطي عبر تخليص الدولة السودانية من تركة النظام الاسلامي الثقيلة بعمل منهجي نابع من إرادة وطنية صميمة.

قوى الحرية والتغيير (قحت) والشراكة المعطوبة

الطريقة التي أدارت بها قحت الشراكة كانت دون مستوى التحديات بكثير، والسبب هو الخلل الهيكلي في هذا التحالف المترهل الذي كان عبارة عن حاصل جمع العيوب التكوينية في الاجسام الرئيسية المكونة له (نداء السودان،قوى الإجماع الوطني، الجبهة الثورية، مبادرة المجتمع المدني، تجمع المهنيين)، تفحص الخلل التنظيمي والمؤسسي الذي تسبب في إضعاف الكفاءة السياسية لقحت وادى لعجزها عن التصدي باقتدار لإنجاز الأهداف التأسيسية لمرحلة جديدة في تاريخ السودان مطلوب بإلحاح في سياق رسم خارطة الطريق للأمام، وفي سياق فهم  اسباب اخفاقات قحت في العامين الماضيين ابتداء من عملية المفاوضات مع المجلس العسكري التي لا تتوفر لدى قحت نسخة من محاضرها التي كان من الواجب كتابتها بعناية كوثيقة تاريخية مهمة من حق الاجيال الحاضرة والقادمة الاطلاع عليها! هذا مجرد مثال صغير على تقاصر قحت عن مهام التأسيس الكبرى!

اما الأمثلة الكبيرة على قصور قحت فأهمها  عيوب الوثيقة الدستورية ومنها على سبيل المثال لا الحصر اسناد مهمة إصلاح الأجهزة العسكرية للأجهزة العسكرية نفسها! حسب نص الفقرة 12 من المادة 7 وعنوانها مهام الفترة الانتقالية، وغريب جدا استبعاد المدنيين من المشاركة في الإصلاح الامني والعسكري وهو أكبر معضلة امام الدولة السودانية، ليس هذا فقط بل جعلت الوثيقة الدستورية حق تعيين وزيري الداخلية والدفاع للمكون العسكري في مجلس السيادة! وهذا يكرس لوضعية مختلة ديمقراطيا وهي استعلاء المؤسسات العسكرية على السلطة المدنية! فإذا كنا نسعى لبناء نظام ديمقراطي حقيقي فإن اهم خصائصه ان تكون المؤسسة العسكرية خاضعة لسلطة الحكومة المدنية المنتخبة التي يختار رئيسها ضمن طاقمه الوزاري وزيري الداخلية والدفاع (بالمناسبة ممكن جدا ان تكون امرأة وزيرة للدفاع أو الداخلية)، والقائد الاعلى للقوات المسلحة هو رأس السلطة التنفيذية او السيادية المدنية! عقلية ان الشأن العسكري كبير وخطير ومتعالي على المدنيين لن ينتج عنها الا الدكتاتوريات العسكرية.

ولكن المأساة لا تنحصر في عيوب الوثيقة الدستورية، فأي نص دستوري او قانوني مهما بلغ واضعوه من كفاءة ونزاهة لا بد ان تعتريه عيوب ونواقص واخطاء متفاوتة، المأساة الحقيقية ان قحت لم تقم بواجبها في التطبيق الجاد والامين للوثيقة التي ارتضتها، ولم تجتهد في انتزاع الحقوق التي نصت عليها الوثيقة لصالح الشعب السوداني ولم تقاتل من أجل تنفيذ الاصلاحات المؤسسية للدولة السودانية المنصوص عليها في الوثيقة، مثل إعادة بناء المنظومة العدلية واصلاح الخدمة المدنية وإنشاء المفوضيات المستقلة المنوط بها وضع الاسس المتينة للتحول ديمقراطي مثل مفوضية الدستور والانتخابات ومفوضية العدالة الانتقالية ومفوضية السلام ومفوضية  الاصلاح القانوني ومفوضية مكافحة الفساد، وتواطأت قحت مع المكون العسكري في عدم الالتزام بتكوين المجلس التشريعي في مدة أقصاها 90 يوما بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية!

قحت بين السقوط الاختياري والسقوط الإجباري!

سقطت قحت في امتحان “التأسيس للنظام الديمقراطي” من عدة أوجه: تهربها من استحقاق “المجلس التشريعي” واختيارها ان تكون حكومتها محصنة من الرقابة والمحاسبة ولو امام مجلس تشارك هي في تعيين أعضائه بنسبة 67%!! وتواطؤها مع المجلس العسكري في ان تنحصر مهمة التشريع في الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء! وإذا اخذنا في الاعتبار الضعف السياسي البائن لمعظم الشخصيات المدنية التي اختارتها قحت لمجلس السيادة، وتركيبة مجلس الوزراء ومجلس السيادة التي فيها حصة مقدرة لعناصر الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام وهؤلاء تحت السيطرة الكاملة للمكون العسكري، يتضح جليا كيف ساعدت قحت العسكر في بسط سيطرتهم على التشريع!

الوجه الاخر والاهم لسقوط قحت في امتحان الديمقراطية هو تحاشيها لإعادة هيكلة نفسها بصورة ديمقراطية في اتجاه استيعاب قوى الثورة الحية من الشباب والنساء والمثقفين، وفي اتجاه تكوين مؤسسة قيادية موثوقة بالانتخاب او التراضي لتكون مفوضة لقيادة التحالف باقتدار في معارك التحول الديمقراطي، بدلا من ذلك غلب على قحت نهج الاحتكار وتضييق قاعدة المشاركة حتى على مكونات التحالف الاصليين ناهيك عن الانفتاح على قوى الثورة في طول السودان وعرضه، كما اعرضت قحت تماما عن بناء رابطة متينة  ومستدامة بالشارع الثوري حتى تكون هذه الرابطة وسيلة ضغط فعالة على المكون العسكري لفرض اهداف الثورة فرضا، وبدلا من الالتحام بالشارع انهمكت قحت في صراعات صغيرة حول المناصب وانخرط بعضها في صفقات خائبة مع العسكر لمصالح حزبية وخفت او انعدم صوت المعارك التأسيسية الكبرى للنظام الديمقراطي البديل فلم تتحفنا قحت بأي أفعال ملموسة او مجرد اطروحات جريئة وتفصيلية  في مجال العدالة الانتقالية أو اصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية او كيفية إدماج الدعم السريع والحركات المسلحة في جيش مهني واحد بعقيدة قتالية جديدة او مكافحة الفساد في حكومة قحت نفسها، لم نشهد في الساحة اي اهتمام محسوس وملموس بالتحضير للانتخابات في نهاية الفترة الانتقالية إذ لا حديث عن تعداد سكاني مهني يوفر قاعدة بيانات محترمة للتنمية والخدمات والانتخابات، او نقاش حول القانون والنظام  الانتخابي الامثل للسودان، ولم نسمع بأن احزاب قحت عقدت مؤتمراتها العامة او اجرت اي تمارين في الالتحام بجماهيرها (الاستثناء الوحيد المؤتمر السوداني)،  ولم نسمع  عن عملية مصالحة وطنية جادة لبناء توافق متين يضمن التعايش السلمي في ظل الاختلافات الحادة، ولا عن مفوضية الانتخابات والدستور ولا مبادرات نوعية في تحقيق السلام  ، ولا منهج واضح لإصلاح الخدمة المدنية بل كانت هناك عمليات فصل لموظفين وتعيينات لآخرين على اساس المحسوبية الحزبية! وفي ظل الفترة الانتقالية سفكت دماء الأبرياء في دارفور وجنوب كردفان وشرق السودان وكان الافلات من العقاب سيد الموقف! كما كان التستر والتراخي هو منهج التعامل مع المفسدين في الفترة الانتقالية! اما مهمة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو فتم ابتذالها تماما عبر تهريج “لجنة إزالة التمكين” التي تحولت الى بقرة مقدسة.

باختصار لم تكن قحت تعمل بصورة منهجية من أجل “التأسيس التاريخي” لعملية الانتقال المدني الديمقراطي، بل كانت تعمل على حيازة السلطة بشراهة وكأننا في أوضاع طبيعية! ومن الفضائح ان احد قيادات قحت طالب حميدتي بتمديد الفترة الانتقالية لعشر او خمسة عشرة عاما! وبصرف النظر عن صحة هذه الرواية من عدمها فإن السلوك العملي لقحت ولا سيما أحزاب الأقليات المسيطرة عليها سياسيا وتنظيميا يرجح فرضية المشروع الاستيطاني في الفترة الانتقالية.

صحيح كانت هناك نجاحات ملموسة لحكومة قحت بقيادة حمدوك تتمثل في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وعودته كعضو طبيعي في الاسرة الدولية، وبعض الدعم من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، واستقرار سعر الصرف، ومعالجة مشكلة ندرة السلع الأساسية كالدواء والخبز الى حد كبير، وتحسن نسبي في خدمات الكهرباء والمواصلات، ولكن هذه ليست المهام الكبرى لتأسيس الانتقال المدني الديمقراطي التي لم تتصدر اولويات قحت.

كل هذه الحقائق المرة، لا تبرر انقلاب 25 اكتوبر بقيادة البرهان ولا تبرر استسلام حمدوك له، لأن  الانقلاب لم يأتي للإطاحة بالمشروع الاحتكاري لقحت  الذي مهما اختلفنا معه ، فهو مشروع نستطيع الإطاحة به بوسائل الضغط الشعبي والصراع السياسي، اما مشروع الاحتكار العسكري المتحالف مع الفلول وأكثر العناصر انتهازية وفساد في قحت، والمدجج بالدبابات والسلاح والسجون فهو حكم بالإعدام على التطور السياسي الطبيعي وقبر للانتقال المدني الديمقراطي نهائيا، فضلا عن ان العسكر لعبوا الدور الاساسي في عرقلة كل مهام التأسيس انفة الذكر ، ولذلك فإن مقاومة انقلاب 25 اكتوبر يجب ان تتصاعد بلا هوادة، ولكن ليس من أجل العودة بالأوضاع الى يوم 24 اكتوبر، اي المشروع الاحتكاري لقوى الحرية والتغيير، بل من اجل الانتقال إلى مرحلة جديدة لتأسيس الانتقال المدني الديمقراطي، يقودها تحالف سياسي جديد قوامه قوى ديمقراطية راغبة في التحول الديمقراطي وقادرة على خوض معاركه برؤية واضحة وبصلابة ونزاهة، هذا التحالف الجديد يجب ان يكون اضافة نوعية لرأس المال السياسي للثورة السودانية وطرف جديد في معادلة توازن القوى لترجيح كفة الاجندة الديمقراطية، ولذلك عليه ان يعمل من أجل توحيد وتقوية الاصطفاف المدني الديمقراطي في مواجهة المشاريع الانقلابية مدنية او عسكرية.

 

‫3 تعليقات

  1. حقيقة، طوال سنوات هذا الصراع السياسي الممتد لأكثر من عامين، لم اقراء اية مقالة سياسية تتناول الوضع السياسي السوداني بالعمق و التبصر و الموضوعية كما تناوله هذا المقال….
    ظللت تتسأل طوال الوقت اين الصحافيون؟ اين كتاب الرأى؟ اين الباحثون الأكاديميون؟ ليثروا النقاش و يوجهوا و يملكوا الحقاىق لعامة الشعب … غير اني لم أجد الا أشخاص أستصعبوا البحث و التنقيب و توجيه الاسألة الصعبة و في المقابل استسهلوا التنمر على الأحزاب السياسية فقط لأن كلفة النقد الموضوعي شاقة.
    لك الشكر على هذا الجهد.

  2. التحية للأستاذة رشة،وحقيقة تشرفت بأنك من قيادات منبر التغير الإلكترونية التى نساهم عبرها فى صناعة الرأى العام ومساندة الثورة والثوار وبالتالى شعبنا وبلدنا السودان فى سبيل الخلاص الوطنى فى هدف الوصول للدولة المدنية الديمقراطية وما يعنيه ذالك من خير للبلد وللشعب هذا، بجانب اطمانيت ولحد مقدر أن صارت بسودان الراهن عقول وأقلام فاحصة،موضوعية،واعية وأمينة تراقب وتحلل وتساهم فى نفس الوقت فى صناعة التغير المنشود امل الشعب السودانى فى غالبيته فى الدولة المدنية الديمقراطية،وحقيقة قد شملت كتاباتك جل النقد الموضوعى للأداء السياسى لقوى الثورة المختلفة فى فترة الثلاث أعوام السابقة،كما أقترح على كل قوى الثورة الحية بما فيها الأحزاب السياسية الحريصة على انجاز الدولة المدنية الديمقراطية أن تتطلع على هذا السرد للحقائق والنقد الموضوعى لما جرى فى بلادنا حتى اليوم والاستفادة من وجهات النظر هذه والمساهمات فى التنظيم والنضال من أجل قيام الدولة المدنية الديمقراطية و نجدة شعبنا وبلادنا من الانتكاسة مرة أخرى والسقوط من جديد فى مستنقع الدولة الظلامية الفاسدة الظالمة الديكتاتورية ،وكيفية انجاز وإنجاح الثورة وتحقيق أهدافها المعلنة من الجماهير فى الحرية والسلام والعدالة…… وبرافو عليك يا استاذة رشا،وانى أضم صوتى الى صوتك فى التعجيل بتكوين الجسم الثورى البديل الممثل للثورة والثوار الان عاجلا فى مقترح التحالف الجديد لقوى الثورة وفق برنامج واضح ومواثيق ملزمة ومفصلة فى جبهة عريضة متحالفة لإنجاز برنامج بعينه وأهداف متفق عليها،اخذة فى اعتبارها كل التجربة الماضية فى الصراع مع ما يسموا بالاسلاميين وحلفاؤهم من الفاسدين والمجرمين،والى الأمام فى مذيد من الإصرار والاستبسال والعمل من أجل نزع الحقوق وتحرير الوطن والشعب من عربدة القتلة والمجرمين والمكذبين بالدين وسارقى مقدرات الشعب ومبدديها والنصر حليف شعبنا وثوارنا وحتما سينتصر الشعب متى ما أراد وتحصن بالوعى وقيم وأهداف ثورة ديسمبر المجيدة ،وحقيقة الشعب اقوى والردة مستحيلة والنصر حليف شعبنا وثورته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى