أخبارتقارير وتحقيقات

فضائح الطب العدلي ومأساة المشارح.. من يسعى لـ«دفن» الأدلة؟ «1»

ظل ملف تكدس الجثث في المشارح السودانية، قضية محورية طوال عمر الثورة التي شهدت سقوط عدد كبير من الشهداء بجانب المفقودين والمخفيين قسرياً، وأثارت القرارات التي صدرت وتصدر بشأن الملف الاستفهامات حول من يقف وراء محاولات «دفن» جثامين مجهولي الهوية وبالتالي «دفن» كثير من الأدلة والحقائق؟!!

التغيير- تحقيق: أمل محمد الحسن

في كارثة إنسانية تعد الأولى من نوعها في العالم، تكدّست جثامين الموتى في مشارح العاصمة السودانية، في ظروف غير مهيأة يرافقها انقطاع التيار الكهربائي، حتى تحللت الجثث وأزكمت روائح الموتى الذين أهدرت كرامتهم الانسانية، أنوف القاطنين قرب المستشفيات، وهزّت الضمير الإنساني حتى اعتصم الناس واحتجوا على ما اعتبروه ” انعداما للأخلاق وغيابا للقانون!”

هذه الوضعية المأزومة المخالفة لقوانين حقوق الإنسان العالمية؛ فتحت العيون على الكثير مما يدور في أضابير الطب الشرعي السوداني، ونبّهت الناس إلى حوادث ربما كانت تمر في السابق دون أن ينتبه لها أحد.

تضارب في المعلومات الخاصة بقضية الشهيد ود عكر وبلاغات في الفريق الطبي صاحب التقرير الأول

تقارير متضاربة

لم يكن لدى الشهيد «ود عكر» وأصدقائه أدنى فكرة عن أهمية تلك الصور التي التقطوها أمام الجداريات في 3 أبريل، قبل أن يغادرهم للمرة الأخيرة دون وداع!

الـ«تي شيرت» الأبيض بخطوط سوداء رفيعة و«الاسورة» البلاستيكية البيضاء في اليد، كانا من العلامات التي جعلت طبيب الأسنان الشرعي المُطلع على صور المفقودين د. خالد محمد خالد، يتعرّف على جثمانه الملقي في مشرحة الأكاديمي.

فيما تمت حلاقة شعره الذي تعوّد على جدلهِ على طريقة «الراستات»، وأكد د. عقيل النور الذي قام بإعادة تشريحه أنه وجده موضوعاً في جيبه!

الشهيد ود عكر

«من استطاع أن يقتله ويلقيه في مكان عام هي جهة صاحبة نفوذ»- هذا ما قالته لـ«التغيير»، أمل، أخت الشهيد محمد إسماعيل الشهير بـ«ود عكر».

وكشفت أمل عن تعرّض الشهيد للتهديد المُستمر من قِبل منتمين إلى جهات نظامية، كانوا يحضرون إلى «الصالون» الذي يمتلكه ويهددونه، أحياناً أمام زبائنه الذين شهدوا بأنهم يحضرون بسيارات «بوكس» لا تحمل لوحات.

بعد مطابقة فحص الـ«دي أن أيه» مع والدته تم التأكيد على أن الجثمان الذي وجد ملقياً في «الكونتينر»- ثلاجة مؤقتة منحتها اليوناميد للمشرحة وكانت تستخدم في الحفظ المؤقت للجنود بدارفور-، في فناء المشرحة مع الجُثث المتحلِّلة هو للشهيد ود عكر، وفق ما قالته أمل نقلاً عن أعضاء لجان المقاومة.

الأمر المثير للحيرة عدم وجود صور للشهيد «ود عكر» في دليل المشرحة، لأن أي جثمان يدخل إليها يرافقه بلاغ من النيابة، ويرتبط باسم تحرٍّ معين، وتكون هناك صور من مسرح الحادث، وصور حديثة للمتوفي قبل أن يتحلّل جثمانه حتى يسهل على أهلهِ التعرّف عليه حال وصولهم للمشارح!

«لا نعرف من الذي قام بوضعه وسط الجثث المتحللة؟»- قالت أخته، مشيرةً إلى تشكيكهم ومطالبتهم بالتحقيق في نتيجة التشريح الأول الذي قامت به مديرة مشرحة الأكاديمي أشواق الطاهر، رفقة طبيبين آخرين.

«قالوا في تشريحهم إنه تعذّر عليهم معرفة سبب الوفاة، ليس هذا فحسب، لكنهم كتبوا أن الجثمان لذكر من جنوب السودان، وفي فئة عمرية بين الأربعين والخمسين»!

اتصلت «التغيير» بمديرة مشرحة الأكاديمي من أجل أخذ إفادتها بخصوص الاتهامات التي طالتها، إلّا أنها رفضت التعليق!.

ومن ثم طالبت الأسرة بإعادة التشريح، الذي حدث بحضور أخ الشهيد وخاله، ثم صدر التقرير الثاني الذي يؤكد بأنه مات مقتولاً وأنه تعرّض للتعذيب بوجود آثار الكدمات على أطرافه. وأكد التقرير الثاني أنه توفي بسبب ضربة على الرأس بآلة حادة.

تقرير مخفي!

مطالبات أسرة ود عكر بمحاسبة لجنة الأطباء التي قالت بتعذّر معرفة سبب الوفاة لم تكن الوحيدة، فقد انضمت اللجنة التي شكلها النائب العام السابق مبارك محمود إلى التحقيق في تضارب التقارير للأسرة، وكتبت في تقريرها ضرورة فتح بلاغات جنائية في الفريق الطبي صاحب التقرير الأول تحت المواد «89، 96، 114، و97»، وهي مواد تتعلق بمحاسبة من يقدم تقارير رسمية مزورة ويخفي الأدلة ويساعد بالتستر.

إلا أنّه وبصورة غامضة لم يكن هذا التقرير موجوداً، أما اللجنة التي تم تشكيلها بغرض التقصي في أسباب تكدّس الجثامين، فقد وجدت- وفق مصدر عدلي مطلع- تقريراً يوصي بإعادة القرار للطب العدلي وتشكيل لجنة جديدة.

مصدر عدلي أكد لـ«التغيير»، أن بلاغاً تحت المادة «130»- القتل العمد- متوقف في انتظار تقارير الطب الشرعي، وكشف عن عدم التحقيق مع بقية المرتبطين بالحادثة، أفراد الشرطة الذين أحضروا الجثمان للمشرحة والمتحري في البلاغ!

بينما توكل أسرة «ود عكر»- وفق اخته- الأمر لمحامين من المنطقة، ولا تعلم أي شئ عن قرار النائب العام القاضي بتشكيل لجنة جديدة.

الأسرة تشعر بالعجز الشديد، وترفع يديها بالشكوى لله، بعد أن فقدت الأمل في عدالة الأرض.

«أمي مريضة قلب بعد حادثة محمد باتت لا تقوى على الحركة من الفراش»!.

وهذه التوصية اتبعها النائب العام الجديد، خليفة أحمد خليفة، في القرار الذي أصدره بتاريخ 29 أغسطس بتشكيل لجنة فنية من الطب العدلي!

اتهامات لجهات عليا داخل النيابة بتوفير الحماية لأطباء عدليين يقدِّمون تقارير طبية غير صحيحة

أين ذهب التقرير؟

التقرير الذي أكد أحد أعضاء لجنة التكدس عدم وجوده داخل الملفات، قطع مصدر عدلي مطلع- فضل حجب اسمه- بوجوده واطلاع النائب العام الجديد عليه، متهماً جهات عليا داخل النيابة بتوفير الحماية للأطباء العدليين الذين يقدمون تقارير طبية غير صحيحة.

أحد أعضاء لجنة التحقيق التي طالبت بمحاسبة أصحاب التقرير الأول، أكد لـ«التغيير» عدم وجود أي فرصة لعدم معرفة أسباب الوفاة نسبة لتشنج أطراف الشهيد، مما يؤكد تعرضه للتعذيب قبل قتله!

ما هي قصة الجثمان 103 وكيف عطل إجراءات التشريح والدفن

الجثمان «103»

لم تكن حادثة الشهيد ود عكر هي الأولى من نوعها في تضارب تقارير الطب الشرعي بشأن أسباب وفاة من يتعرّضون للإخفاء القسري، وهناك حادثة الشهيد بهاء الدين نوري الذي مات مقتولاً في حراسات قوات الدعم السريع، ليخرج تقرير الطبيب الشرعي الأول بأنه توفي لأسباب مرضية، قبل أن تُطالب أسرته بتشكيل فريق آخر يؤكد موته مقتولاً تحت التعذيب!

وعلى الرغم من أن حادثة الشهيد بهاء نوري لم تحدُث في مشرحة الأكاديمي، إلا أن واقعةً غريبةً أخرى حدثت فيها.

تعود القصة إلى وصول جثمان لخفير من دولة جنوب السودان، يدعى جيمس شول، تُوفي بصورة غامضة وتم إحضاره إلى المشرحة، ببلاغ تحت المادة «51» إجراءات.

لافتة بها صورة الشهيد بهاء نوري

وكانت لجنة المفقودين منعت دفنه نسبة لوجود شبهة جنائية في طريقة وفاته، لكنه في رمضان من العام 2020م قامت قوة من الشرطة والنيابة بحراسة «23» جثماناً، من بينهم الجثمان «103» ونقلهم ودفنهم في مقابر خاصة بمنطقة شرق النيل.

وبعد الدفن، يتم اكتشاف جثمان آخر يحمل ذات الرقم، وربما ذات الاسم والتفاصيل! الأمر الذي عطّل إجراءات التشريح والدفن التي كلّف بها النائب العام بعض وكلاء النيابة في محاولة لحل مشكلة تكدّس الجثامين بالمشارح.

«حتى كتابة هذا التحقيق لم يتم نبش الجثمان 103 والتأكد من مطابقة الأرقام من عدمها».

«5- 7» جثامين جديدة تصل للمشارح يومياً، «تدفن» بين الجثث الأخرى ويتعذّر الوصول إليها

هدر الكرامة

«اسم المتوفى من خيال المحرر»

حاج أحمد- مواطن سوداني قدِم إلى الخرطوم ليكمل بعض الإجراءات، نزل في فندق رخيص في قلب العاصمة الخرطوم، بعد يومٍ طويل بين المؤسسات الحكومية عاد إلى فندقه؛ وضع أشيائه وخرج يبحث عن شئ يأكله.

وهو يعبر الطريق؛ صدمته سيارة، توفي في الحال ونُقل إلى المشرحة!

بعد أن كان «حاج أحمد» شخصاً معروفاً لدى أهله ومنطقته، تحول لـ«رقم» بمشرحة بشائر بالخرطوم.

أسرته التي قتلها القلق بسبب تأخره عن العودة، طفقت تبحث عنه في كل مكان، حتى وصلت للمشرحة التي تحتضن جثمانه، وبالفعل تعرّفت عليه من صورته المرفقة في دليل المشرحة، ولكن المفاجأة كانت عدم قدرة المشرحة على تسليمه لذويه!!

في اليوم الواحد تصل للمشارح بين «5- 7» جثامين جديدة وفق المجلس الاستشاري للطب العدلي، ومع واقع تكدّس الجثامين بالمشارح فأي جثة جديدة تصل المشرحة «تدفن» بين الجثث الأخرى ويتعذّر الوصول إليها!

تقف أسرة حاج أحمد حائرة وهي تصطدم بحقيقة أن جثمان والدهم خلف هذا الباب لكنهم لا يستطيعون ببساطة أخذه لإكرام مثواه الأخير، غسله والصلاة عليه ثم دفنه بأقرب مقابر حيث تقطن الأسرة ليتمكّن أهله من زيارته والدعاء له.

يتساوى حال معلومي الهوية ومجهوليها داخل المشارح بولاية الخرطوم اليوم، فالعدد الهائل الذي تضمه من الجثامين يفوق عشرة أضعاف سعتها الاستيعابية التي لا تتجاوز في أفضل الحالات «250» جثمان.

الجثث تتراكم فوق بعضها من الأرض وحتى سقف المشرحة، رجالاً ونساء البعض تستر عورته بعض الملابس والبعض الآخر عارٍ تماماً، بعض الجثث المتحللة تلتصق بالبعض الآخر، واعتادت الفئران الكبيرة «الجقور» التغذية على البقايا الآدمية! وفق ما كشف مدير مشرحة بشائر عقيل النور سوار الدهب.

وطرح مصدر عدلي تساؤلاً قيما هنا: «بعد أن اعتادت هذه الجقور على أكل البشر، ما الذي ينتظرنا من تغيرات في طبيعة غذائها؟».

البقايا الآدمية التي تسيل من الجثث المتكدّسة داخل المشارح تقوم بإغلاق مجاري الصرف الصحي بالمستشفيات، وتبعد المشرحة في مستشفى بشائر فقط «10» أمتار عن غرفة العمليات، و«200» متر عن غرفة غسيل الكلى، وفق مدير المشرحة د. عقيل.

مخلفات بشرية ناجمة عن تكدس الجثث بمستشفى التميز بالخرطوم

الجثث التي فاقت الـ«3» آلاف جثة ومتراكمة منذ العام 2019م، تتكدس في «3» مشارح بولاية الخرطوم «مشرحة مستشفى أم درمان، مشرحة الأكاديمي ومشرحة بشائر» وهي في أقصى تقدير لا تستوعب أكثر من «250» جثمان، أي أنها تتحمل الآن أكثر من «10» أضعاف طاقتها الاستيعابية.

الواقع المهين للكرامة الإنسانية ويصل لجريمة وفق بروتوكولات حماية حقوق الإنسان العالمية الذي وصل إليه حال المشارح اليوم لم يقدّم فيه اتهام لأي جهة، أو أشخاص، ولا يتحمل أي شخص هذه المسؤولية ولن يقدّم فيه أحد للمحاسبة!

دوامة الاتهامات

في أثناء البحث والتقصي حول صاحب المسؤولية، اصطدمت «التغيير» بجهتين تشيران بأصابع الاتهامات لبعضهما البعض، وترفض أي منهما تحمل جزء من المسؤولية!

هما لجنة المفقودين وهيئة الطب العدلي، وحديث كل جهة عن الأخرى كان مليئا بالعدائية ولا يخلو من «السباب»!

في الجزء الثاني من التحقيق نتعرّف على الاتهامات ودفوعات كل طرف…

نواصل…

تعليق واحد

  1. لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم …لاحول ولاقوة الا بالله العلى العظيم حتى حق الميت ماقادرين تادوه انا لله وانا اليه راجعون بيه …دى حرمة ميت ..اللهم اغفر لهم واكرم نزلهم فقد اهانوهم أحياء واموات انت الكريم فاكرم نزلهم ولقنهم حجتهم وارنا فيمن انتهك حرمتهم أحياء واموات يوم تشفى فيه صدور قوم مؤمنين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى